فصل: تفسير الآية رقم (27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (23):

{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {الْمُحْصَناتِ} تقدم في النساء. وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا، وقد بيناه أول السورة والحمد لله. واختلف فيمن المراد بهذه الآية، فقال سعيد بن جبير: هي في رماة عائشة رضوان الله عليها خاصة.
وقال قوم: هي في عائشة وسائر أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله ابن عباس والضحاك وغيرهما. ولا تنفع التوبة. ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل الله له توبة، لأنه قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا 160} فجعل الله لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة، قاله الضحاك.
وقيل: هذا الوعيد لمن أصر على القذف ولم يتب.
وقيل: نزلت في عائشة، إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة.
وقيل: إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى، ويكون التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، واختاره النحاس.
وقيل: نزلت في مشركي مكة، لأنهم يقولون للمرأة إذا هاجرت إنما خرجت لتفجر.
الثانية: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} قال العلماء: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة فالمراد باللعنة الابعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين. وعلى قول من قال: هي خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أبى وأشباهه. وعلى قول من قال: نزلت في مشركي مكة فلا كلام، فإنهم مبعدون، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، ومن أسلم فالإسلام يجب ما قبله.
وقال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى، ويكون التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، وكذا في الذين يرمون، إلا أنه غلب المذكر على المؤنث.

.تفسير الآية رقم (24):

{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)}
قراءة العامة بالياء، واختاره أبو حاتم. وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف: {يشهد} بالياء، واختاره أبو عبيد، لان الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل، والمعنى: يوم تشهد ألسنة بعضهم على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان.
وقيل: تشهد عليهم ألسنتهم ذلك اليوم بما تكلموا به. {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} أي وتتكلم الجوارح بما عملوا في الدنيا.

.تفسير الآية رقم (25):

{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}
أي حسابهم وجزاؤهم. وقرأ مجاهد: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق} برفع {الْحَقُّ} على أنه نعت لله عز وجل. قال أبو عبيد: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع، ليكون نعتا لله عز وجل، وتكون موافقة لقراءة أبى، وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبى {يوفيهم الله الحق دينهم}. قال النحاس: وهذا الكلام من أبى عبيد غير مرضى، لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم. ولا حجة أيضا فيه لأنه لو صح هذا أنه في مصحف أبى كذا جاز أن تكون القراءة: يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم، يكون {دينهم} بدلا من الحق. وعلى قراءة {دِينَهُمُ الْحَقَّ} يكون {الْحَقَّ} نعتا لدينهم، والمعنى حسن، لان الله عز وجل ذكر المسيئين وأعلم أنه يجازيهم بالحق، كما قال عز وجل: {وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17]، لان مجازاة الله عز وجل للكافر والمسيء بالحق والعدل، ومجازاته للمحسن بالإحسان والفضل. {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} اسمان من أسمائه سبحانه. وتعالى. وقد ذكرناهما في غير موضع، وخاصة في الكتاب الأسنى.

.تفسير الآية رقم (26):

{الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}
قال ابن زيد: المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون للخبيثات، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات.
وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول. قال النحاس في كتاب معاني القرآن: وهذا من أحسن ما قيل في هذه الآية. ودل على صحة هذا القول: {أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي عائشة وصفوان مما يقول الخبيثون والخبيثات.
وقيل: إن هذه الآية مبنية على قوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] الآية، فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الطيبون والطيبات. واختار هذا القول النحاس أيضا، وهو معنى قول ابن زيد. {أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ} يعني به الجنس.
وقيل: عائشة وصفوان فجمع كما قال: {فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] والمراد أخوان، قاله الفراء.
و{مُبَرَّؤُنَ} يعني منزهين مما رموا به. قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام لما رمى بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن، فما رضى لها ببراءة صبي ولا نبى حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان. وروي عن علي بن زيد بن جدعان عن جدته عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، ولقد توفي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفت الملائكة بيتي، وإن كان الوحى لينزل عليه وهو في أهله فينصرفون عنه، وأن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه فما يبيننى عن جسده، وإني لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة وعند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما، تعنى قوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهو الجنة.

.تفسير الآية رقم (27):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)}
فيه سبع عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً} لما خصص الله سبحانه ابن آدم الذي كرمه وفضله بالمنازل وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج أو يلجوها من غير إذن أربابها، أدبهم بما يرجع إلى الستر عليهم لئلا يطلع أحد منهم على عورة.
وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقئوا عينه». وقد اختلف في تأويله، فقال بعض العلماء: ليس هذا على ظاهره، فإن فقأ فعليه الضمان، والخبر منسوخ، وكان قبل نزول قوله تعالى: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا} [النحل: 126] ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفا لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به. وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتكلم بالكلام في الظاهر وهو يريد شيئا آخر، كما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال: «قم فاقطع لسانه» وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا، ولم يرد به القطع في الحقيقة. وكذلك هذا يحتمل أن يكون ذكر فقء العين والمراد أن يعمل به عمل حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره.
وقال بعضهم: لا ضمان عليه ولا قصاص، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، لحديث أنس، على ما يأتي.
الثانية: سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إنى أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل على وإنه لا يزال يدخل على رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت الآية. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور: 29].
الثالثة: مد الله سبحانه وتعالى التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس، وهو الاستئذان. قال ابن وهب قال مالك: الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان، وكذا في قراءة أبى وابن عباس وسعيد بن جبير: {حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها}.
وقيل: إن معنى: {تَسْتَأْنِسُوا} تستعلموا، أي تستعلموا من في البيت. قال مجاهد: بالتنحنح أو بأي وجه أمكن، ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به، ويدخل إثر ذلك.
وقال معناه الطبري، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] أي علمتم.
وقال الشاعر:
آنست نبأة وأفزعها القنـ ** ـاص عصرا وقد دنا الإمساء

قلت: وفي سنن ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل ابن السائب عن أبى سورة عن أبى أيوب الأنصاري قال قلنا: يا رسول الله، هذا السلام، فما الاستئناس؟ قال: «يتكلم الرجل بتسبيحه وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح ويؤذن أهل البيت». قلت: وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان، كما قال مجاهد ومن وافقه.
الرابعة: وروي عن ابن عباس وبعض الناس يقول عن سعيد بن جبير: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} خطأ أو وهم من الكاتب، إنما هو: {حتى تستأذنوا}. وهذا غير صحيح عن ابن عباس وغيره، فإن مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}، وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان، فهي التي لا يجوز خلافها. وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس، وقد قال عز وجل: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [الحجر: 9]. وقد روي عن ابن عباس أن في الكلام تقديما وتأخيرا، والمعنى: حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا حكاه أبو حاتم. قال ابن عطية. ومما ينفى هذا القول عن ابن عباس وغيره أن {تَسْتَأْنِسُوا} متمكنة في المعنى، بينة الوجه في كلام العرب. وقد قال عمر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أستأنس يا رسول الله، وعمر واقف على باب الغرفة، الحديث المشهور. وذلك يقتضى أنه طلب الانس به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف يخطئ ابن عباس أصحاب الرسول في مثل هذا. قلت: قد ذكرنا من حديث أبى أيوب أن الاستئناس إنما يكون قبل السلام، وتكون الآية على بابها لا تقديم فيها ولا تأخير، وأنه إذا دخل سلم. والله أعلم.
الخامسة: السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها. قال ابن وهب قال مالك: الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع. وصورة الاستئذان أن يقول الرجل: السلام عليكم أأدخل، فإن أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن سكت عنه استأذن ثلاثا، ثم ينصرف من بعد الثلاث. وإنما قلنا: إن السنة الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها لحديث أبى موسى الأشعري، الذي استعمله مع عمر بن الخطاب وشهد به لابي موسى أبو سعيد الخدري، ثم أبى بن كعب. وهو حديث مشهور أخرجه الصحيح، وهو نص صريح، فإن فيه: فقال- يعني عمر- ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: أتيت فسلمت على بابك ثلاث مرات فلم ترد على فرجعت، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع». وأما ما ذكرناه من صورة الاستئذان فما رواه أبو داود عن ربعي قال: حدثنا رجل من بنى عامر استأذن على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في بيت، فقال: ألج؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخادمه: «أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان- فقال له- قل السلام عليكم أأدخل» فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل. وذكره الطبري وقال: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لامة له يقال لها: روضة: «قولي لهذا يقول السلام عليكم أدخل؟» الحديث. وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يوما فأتى فسطاطا لامرأة من قريش فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقالت المرأة: أدخل بسلام، فأعاد فأعادت، فقال لها: قولي أدخل. فقالت ذلك فدخل، فتوقف لما قالت: بسلام، لاحتمال اللفظ أن تريد بسلامك لا بشخصك.
السادسة: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما خص الاستئذان بثلاث لان الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا سمع وفهم؟، ولذلك كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه، وإذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا. وإذا كان الغالب هذا، فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث ظهر أن رب المنزل لا يريد الاذن، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه، فينبغي للمستأذن أن ينصرف، لان الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابي أيوب حين استأذن عليه فخرج مستعجلا فقال: «لعلنا أعجلناك...» الحديث.
وروى عقيل عن ابن شهاب قال: أما سنة التسليمات الثلاث فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى سعد بن عبادة فقال: «السلام عليكم» فلم يردوا، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السلام عليكم» فلم يردوا، فانصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما فقد سعد تسليمه عرف أنه قد انصرف، فخرج سعد في أثره حتى أدركه، فقال: وعليكم السلام يا رسول الله، إنما أردنا أن نستكثر من تسليمك، وقد والله سمعنا، فانصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع سعد حتى دخل بيته. قال ابن شهاب: فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك، ورواه الوليد ابن مسلم عن الأوزاعي قال: سمعت يحيى بن أبى كثير يقول حدثني محمد بن عبد الرحمن بنأسعد بن زرارة عن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منزلنا فقال: «السلام عليكم ورحمة الله» قال فرد سعد ردا خفيا، قال قيس: فقلت ألا تأذن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: ذره يكثر علينا من السلام... الحديث، أخرجه أبو داود وليس فيه {قال ابن شهاب فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك}. قال أبو داود: ورواه عمر ابن عبد الواحد وابن سماعة عن الأوزاعي مرسلا لم يذكرا قيس بن سعد.
السابعة: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الاستئذان ترك العمل به الناس. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وذلك لاتخاذ الناس الأبواب وقرعها، والله أعلم. روى أبو داود عن عبد الله بن بسر قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: «السلام عليكم السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور.
الثامنة: فإن كان الباب مردودا فله أن يقف حيث شاء منه ويستأذن، وإن شاء دق الباب، لما رواه أبو موسى الأشعري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في حائط بالمدينة على قف البئر فمد رجليه في البئر فدق الباب أبو بكر فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائذن له وبشره بالجنة». هكذا رواه عبد الرحمن بن أبى الزناد وتابعه صالح ابن كيسان ويونس بن يزيد، فرووه جميعا عن أبى الزناد عن أبى سلمة عن عبد الرحمن بن نافع عن أبى موسى. وخالفهم محمد بن عمرو الليثي فرواه عن أبى الزناد عن أبى سلمة عن نافع ابن عبد الحارث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك، وإسناده الأول أصح، والله أعلم.
التاسعة: وصفه الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع، ولا يعنف في ذلك، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت أبواب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقرع بالأظافير، ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في جامعه.
العاشرة: روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: استأذنت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «من هذا»؟ فقلت أنا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنا أنا»! كأنه كره ذلك. قال علماؤنا: إنما كره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك لان قوله أنا لا يحصل بها تعريف، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو موسى، لان في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب. ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في مشربة له فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم أيدخل عمر؟ وفي صحيح مسلم أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسى، السلام عليكم، هذا الأشعري... الحديث.
الحادية عشرة: ذكر الخطيب في جامعه عن علي بن عاصم الواسطي قال: قدمت البصرة فأتيت منزل شعبة فدققت عليه الباب فقال: من هذا؟ قلت أنا، فقال: يا هذا! ما لي صديق يقال له أنا، ثم خرج إلى فقال: حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حاجة لي فطرقت عليه الباب فقال: «من هذا»؟ فقلت أنا، فقال: «أنا أنا» كأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كره قولي هذا، أو قوله هذا. وذكر عن عمر بن شبة حدثنا محمد بن سلام عن أبيه قال: دققت على عمرو بن عبيد الباب فقال لي: من هذا؟ فقلت أنا، فقال: لا يعلم الغيب إلا الله. قال الخطيب: سمعت على ابن المحسن القاضي يحكى عن بعض الشيوخ أنه كان إذا دق بابه فقال من ذا؟ فقال الذي على الباب أنا، يقول الشيخ: أنا هم دق.
الثانية عشرة: ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة، كما رواه أبو بكر الخطيب مسندا عن أبى عبد الملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال: أرسلتني مولاتي إلى أبى هريرة فجاء معى، فلما قام بالباب قال: أندر؟ قالت اندرون. وترجم عليه باب الاستئذان بالفارسية. وذكر عن أحمد بن صالح قال: كان الدراوردي من أهل أصبهان نزل المدينة، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل: اندرون، فلقبه أهل المدينة الدراوردي.
الثالثة عشرة: روى أبو داود عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلبن وجداية وضغا بيس والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأعلى مكة، فدخلت ولم أسلم فقال: «ارجع فقل السلام عليكم» وذلك بعد ما أسلم صفوان بن أمية.
وروى أبو الزبير عن جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له».
وذكر ابن جريج أخبرني عطاء قال: سمعت أبا هريرة يقول: إذا قال الرجل أدخل؟ ولم يسلم فقل لا حتى تأتى بالمفتاح، فقلت السلام عليكم؟ قال نعم. وروي أن حذيفة جاءه رجل فنظر إلى ما في البيت فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال حذيفة: أما بعينك فقد دخلت! وأما باستك فلم تدخل.
الرابعة عشرة: ومما يدخل في هذا الباب ما رواه أبو داود عن أبى هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «رسول الرجل إلى الرجل إذنه»، أي إذا أرسل إليه فقد أذن له في الدخول، يبينه قوله عليه السلام: «إذا دعى أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن». أخرجه أبو داود أيضا عن أبى هريرة.
الخامسة عشرة: فإن وقعت العين على العين فالسلام قد تعين، ولا تعد رؤيته إذنا لك في دخولك عليه، فإذا قضيت حق السلام لأنك الوارد عليه تقول: أدخل؟ فإن أذن لك وإلا رجعت.
السادسة عشرة: هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك، فأما بيتك الذي تسكنه فإن كان فيه أهلك فلا إذن عليها، إلا أنك تسلم إذا دخلت. قال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم. فإن كان فيه معك أمك أو أختك فقالوا: تنحنح واضرب برجلك حتى ينتبها لدخولك، لان الأهل لا حشمة بينك وبينها. وأما الام والأخت فقد يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها. قال ابن القاسم قال مالك: ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما. وقد روى عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أستأذن على أمي؟ قال: «نعم» قال: إنى أخدمها؟ قال: «استأذن عليها» فعاوده ثلاثا، قال: «أتحب أن تراها عريانة»؟ قال لا، قال: «فاستأذن عليها» ذكره الطبري.
السابعة عشرة: فإن دخل بيت نفسه وليس فيه أحد، فقال علماؤنا: يقول السلام علينا من ربنا التحيات الطيبات المباركات، لله السلام. رواه ابن وهب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنده ضعيف.
وقال قتادة: إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه يؤمر بذلك. قال: وذكر لنا أن الملائكة ترد عليهم. قال ابن العربي: والصحيح ترك السلام والاستئذان، والله أعلم. قلت: قول قتادة حسن.